الممارسات الفنية كمدخل لإعادة تدوير الفضاءات المعمارية المهملة – سامح الحلواني

English

(1)

العمارة هي أحد أوجه “عملة الفن” المتعددة الأوجه والمترابطة التأثير، والتي يمتد أثرها عبر عمر الحضارة الإنسانية، فالملاحظ المدقق يمكن وأن يرى كيف تتحكم العمارة ” كفن” منذ نشأة الإنسان في طريقة حياته اليومية ؛ بل وفي رسم مستقبله من خلال فرضها لطبيعة استخدامه للفراغ العمراني الذي يعيش فيه.

ويمكن القول أن أثر العمارة على الجماعة الإنسانية لا يقل بحال من الأحوال عن أثرها على الفرد، حيث ترسم العمارة طبيعة سلوك الجماعة الإنسانية داخل الفراغ المعماري/ العمراني، ويمكن ببساطة رصد التغيرات السلوكية الجمعية و كذلك التغير في نمط الحياة الذي قد يطرأ على أسرة ما – الأسرة هي الجماعة الاجتماعية الأولية – كنتيجة لانتقال هذه الأسرة من فضاء معماري إلى فضاء معماري آخر. وبشكل ما فإن صانع العمارة، في أحيان كثيرة يكون غير قادر على توقع نتائج تدخلاته ومدى التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تطرأ على هذه الأسرة خاصة بعد فترة زمنية، هذا إذا ما وضعنا في الاعتبار التغيرات السياسية الاجتماعية التي تشكل السياق العام من حول هذه الأسرة.

قس على ذلك كثيرًا من الفضاءات المعمارية التي يستخدمها الانسان والجماعة الإنسانية في أنشتطها المتنوعة، سواء ما كان منها اقتصادي مثل المصانع والأسواق أو ما كان منها خدمي مثل المستشفيات والمجازر الآلية ومحطات المترو والأوتوبيسات وغيرها كثير ، هذه الفضاءات المعمارية هي أشكال و أنماط معمارية تخطط و تشيد لتستخدم مجتمعيا من أجل التنمية و خدمة المجتمع، إلا أنه قد يكتشف بعد فترة ما من استخدامها أنها أصبحت غير ملائمة للوظيفة المشيدة من أجلها، أو قد يحدث تغير للمجتمع من حولها يجعل من وجودها و استمرارها أمراً غير مرغوب فيه، وهو ما قد يحولها لفضاءات مهملة ومنبوذة، بل قد تحاك حولها الأساطير والإشاعات، والتي تؤكد إهمالها بعد توقف قدرة وإمكانية المجتمع على إعادة أو تطوير استخدامها.

(2)

إن ما نسعى إليه هو المشاركة في خلق حياة أفضل لجميع أفراد المجتمع، ذلك من خلال خلق وتنشيط وإدارة واقع ثقافي معاصر قادر على التجدد و التفاعل مع كل المتغيرات التاريخية. وقادر على التفاعل البناء مع الآخر؛ بما يضمن تبادل الخبرات والمعارف بين الثقافات. و تحقيق فكرة إنتاج فن معاصر، والذي سيكون معبرا عن حالة المجتمع هنا / الآن وفي واقعنا اليومي المعاش، لأجيال المستقبل المنظور و ما بعده .

وإذا ما كانت تلك هي رؤيتنا وما نصبو إلى تحقيقه فإن ذلك يواجهه العديد من المشاكل، و التي تتدرج من صراع الحضارات والثقافات ما بين الشعوب، ثم ما بين طبقات وتنوعات المجتمع الواحد؛ وصولاً إلى طبيعة استخدام المجتمع لفنون العمارة التي ينتجها، و كيفية تأثيرها على نمط حياته، وعدم قدرتها – العمارة – على توقع مشاكل هذا المجتمع المستقبلية، وبالتالي عدم قدرة العمارة على التعامل معها و حلها لأنها و ببساطة لم تدركها منذ البداية.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، إذا ما نظرنا إلى الفضاءات المعمارية الصناعية المختلفة كمصانع تكرير وفصل المنتجات البترولية، الصناعات البتروكيميائية، وكذلك مباني الصناعات المنقرضة وغيرها.  فمن المؤكد أنه قد تم التخطيط لبناء تلك الفضاءات خارج المدن ولكن بعد فترة ليست طويلة، فان المدينة تزحف نحو تلك الفضاءات، ومع الوقت تزداد أهمية وجودها، و ينمو حولها مجتمعات، وتنمو حياة اقتصادية واجتماعية كاملة، محورها الأساسي العيش إلى جوار تلك الفضاءات المعمارية الصناعية، غير عابئة بتلك البيئة الملوثة وتداعياتها الصحية والبيئية. إلا أن تلك المباني وكما أتوقع فإنها وبعد وقت لن يكون طويلاً سوف ينتهي دورها، خاصة بنهاية عصر البترول و مشتقاته و سوف تظهر داخل معظم المدن الكبرى بالعالم – وليس خارجها – مبانٍ ذات طبيعة معمارية غريبة.

وأتوقع أن يكون الإتجاه العام – وفقاً لحمى الاستثمار العقاري العالمي – أن يتحرك المجتمع نحو إعادة استخدام أراضي تلك الفضاءات المعمارية الصناعية، لتكون مجمعات سكنية، والتي أعتقد أن أي استخدام سكني لها سيكون خاطئًا بشكل كبير نظراً لأنه لم يكن مخططا لها ذلك من الأساس، ولا حتى أثناء حياة الفضاء الصناعي، ولا أثناء زحف العمران إليه وحوله.  و لابد من الإشارة هنا إلى أن تلك المشاكل موجود ما يماثلها في كل الثقافات والدول ؛ بل كل الأماكن أيًّا ماكان تنوعها الطبوغرافي أو الثقافي أو حتى الاقتصادي.

(3)

كما ذكرت آنفاً، العمارة هي أحد أوجه “عملة الفن” المتعددة الأوجه والمترابطة التأثير، وإن كانت العمارة والمعماريون أحياناً ما يخططون و يشيدون للمستقبل؛ ما قد يرونه مناسبًا للحياة الآن، ثم ما يلبث الزمن أن يظهر بعض أوجه القصور فيما أنجزوا، الأمر الذي يظهر في صورة فضاءات معمارية مهملة، كنتيجة لتجاوز زمنها أو لسوء الاستخدام. فإن باقي أوجه عملة الفن لقادرة على تجاوز وحل تلك المشكلة إذا ما تم إعادة استخدام تلك الأماكن من خلال تحويل تلك الفضاءات إلى فضاءات فنية، بممارسة الفنون المعاصرة المختلفة مثل المسرح أو الموسيقى أو الفنون البصرية إلخ…

وهو ما من شأنه إعادة الاعتبار لتلك الفضاءات المعمارية المهملة، وهو كذلك الأمر الذي سوف يؤثر سريعًا على باقي أوجه أنشطة الأنسان الحياتية اليومية في البيئة المحيطة بتلك الفضاءات وخاصة الاقتصادية منها، ذلك عن طريق عودة الحياة لها بعد أن كانت مهملة.

الأمر الذي سوف يخلق بؤر نشاط إنساني جديدة، تتكون من حولها موجات من الحركة والأنشطة الاقتصادية والاجتماعية، بما يعيد للمناطق التي بها فضاءات مهملة، حيوية مفقودة، ويجعلها قادرة على التواجد و التنافس مع مناطق كانت أكثر منها حيوية سابقاً، مما يثري حياة المجتمع بشكل عام.  ذلك في إطار وعينا بدراسة كل فضاء مهمل على حدة واقتراح طبيعة التعامل معه من هذا المدخل الفني. فالحل هنا مدخله فني بحت يكمل دور العمارة “الفني” .

(4)

 

 

حدث ثقافي في الدكان [1]1 Image 1

نموذج المكسوالدكان

فنانين يرسمون جرافيتي في الكابينة [2  ]2Image 2والكابينة

، هي نماذج يتضح فيها بجلاء التأثير غير المباشر لوجود النشاط الفني بتلك الفضاءات، على أوجه الأنشطة السكانية من حولها سواء الاقتصادية أو الاجتماعية أو حتى السياسية.

فعلى سبيل المثال ماحدث بالمكس من تغيير قرار هدم مباني القرية بعد إعادة استخدام أحد مبانيها كفضاء للفنون المختلفة، و كيف أثَّر وجود الفضاء الفني بها في إعادة تنسيق الفراغ العمراني للقرية بظهور ميدان للقرية؛ ومن ثم إعادة صياغة مباني القرية بشكل فني، ذلك من خلال مجموعة كبيرة من الأنشطة الفنية الجماعية و التي أثرت و ببطء في الضغط على أجهزة محافظة الإسكندرية التنفيذية لوقف هدم القرية بل وتغيير سمعة القريه لدى باقي سكان المدينة عموماً.

وأعتقد أن من أهم جوانب الفكرة هو كيف تؤثر الفضاءات المكتشفة في تطوير البيئة الاقتصادية والاجتماعية من حولها، الأمر الذي يدفع المجتمع و من تلقاء ذاته لأن يكتشف إمكاناته ويقدم تلك الأماكن المهملة للفن والفنانين بعد إدراكه لدورها وأهميتها و بشكل تطوعي، الأمر الذي يدعم الاستدامة في مفهومها العام.

وهو ما حدث في حالة الكابينة، حيث إتجه مالكو الفضاء إلى جدران لتعيد استخدام المكان كفضاء فني، إيماناً منهم بالدور الذي يمكن وأن يلعبه هذا الفضاء الفني في خلق حالة من الرواج الاقتصادي للفراغ العمراني من حوله، و كيف سيكون الفضاء هو نقطة اتصال وتلاقي وتبادل للمعارف والخبرات فيما بين الفئات الاجتماعية المختلفة بمدينة الإسكندرية ككل.

ولكل فضاء مهمل مكتشف ما يميزه من الناحية المعمارية أو الطبوغرافية من حوله، و من خلال علاقته بالفضاءات الأخرى في محيطه، وعلاقتة بالفراغ العمراني ككل، ولذلك فمن الطبيعي أن يكون لكل مكان مكتشف مدخل مختلف للتدخل والعمل الفني بداخله. بما يمكن المجتمع المحيط من فهمه وتفهم وتقدير ضرورته. وليكون ما يقدمه المجتمع هو أحد المصادر الكامنة لدعم ثقافته وتمويلها دون أن يبذل في ذلك المال أو حتى المجهود بل سيكون مصدرًا جديدًا غير مباشر وقوي التأثير وقادر على إحداث التغيير المرتجى لكل مجتمع يعاني من مشاكل اقتصادية أو اجتماعية في الوقت الذي يمتلك فيه الكثير من االفضاءات المهجورة و المهملة.

كما أعتقد أن تطور الإنسانية و الصناعة سوف يقدم دائما للفن الفرصة في أماكن جديدة و فضاءات معمارية لابد من إعادة تدويرها فنيا، بعد أن تنقرض بها صناعة ما، أو لابد من خروجها من أماكنها لزحف المدن عليها و زحف الإهمال عليها وهي بذلك تدعم ثقافتها الذاتية وتعطيها فرصة للتطور والتفاعل المعاصر من جديد.

 

[1]الدكان: مساحة للفن والمجتمع ، أحد مشاريع جدران للربط بين الفن والمجتمع ، – مساحة من طابقين مفتوحة على الشارع في قلب منطقة تجاربة حيوية بالإسكندرية (المنشية) تفتقر إلى مثل هذا النوع من المساحات المهتمة بعرض إبداعات الفنانين سواء كانوا مصريين أو عربًا أو أجانب يتيح ” الدكان ” فرصة عرض أعمال تشكيلية وعقد ورش فنية مختلفة المجالات لأعمار مختلفة وتقديم عروض مسرحية وموسيقية وقراءات أدبية في الطابق الأول منه ، بينما يخصص الطابق العلوي لبيع منتجات فنية يدوية إلى جانب الكتب الأدبية والفنية .

[2]الكابينة: الكابينة هي مساحة فنية، للممارسات الفنية المعاصرة، تعمل على تفعيل تواجد الفنون والممارسات الفنية بين جمهور الشباب، ذلك عبر محاولة إعادة إستثمار/ إستخدام شكل المقهى التقليدي – كمساحة عضوية في مجتمعنا – وتحويله لمساحة فنية تعني فيما تعنى بتنمية سبل إستدامتها المالية، سعياً نحو تأكيد مفهوم خروج الفن والفنانين من إطار القاعات الفنية التقليدية نحو مساحات بديلة مرتبطة أكثر بالشارع بكل متغيراته وفي تفاعل مع مجريات الواقع اليومي المعاش.

والكابينة ستعمل كمساحة لدعم إنتاج الفنون، ودعم الفنانين المعاصرين الشباب عبر توفير مساحات التدريب وفرص التعلم المختلفة والمتنوعة، فتتوفر بها مساحات ستوديو مجهز للتدريب الفرق الموسيقية والمسرحية، وكذلك مكتبة ومختبر للإنترنت ومساحة للعروض البصرية. بالإضافة إلى حديقة صغيرة، ويمكن إستخدام أجزاء المساحة لإمكانية للعروض الفنية المختلفة.

ذلك سعياً نحو دعم ظهور حركة فنية معاصرة شابة متجهه نحو الشارع، خاصة مع ندرة هذا النوع من المساحات في مدينة الإسكندرية.

تقع الكابينة في وسط مدينة الإسكندرية، وفي أكبر مراكز تجمع الشباب في المدينة، حيث دور العرض السينمائي التجارية، والمقاهي الكثيرة، وتتخذ الكابينة من أحد المباني التي كانت مهملة على مدار 35 سنة، مكاناً لها، حيث كانت بالأساس مبني لوحدة التكييف ملحق بسينما “ريالتو” أحد أقدم دور السينما التجارية بالإسكندرية، وتعمل جدران حالياً على ترميم المبنى وتحويله ليصبح مساحة فنية بديلة.

سامح الحلواني (الكاتب): فنان تشكيلي والمدير العام لمؤسسة جدران للفنون والتنمية بالإسكندرية، مصر

عبد الرحيم يوسف (المترجم): شاعر ومترجم ومدرس لغة إنجليزية، وهو المنسق الفني للبرنامج الأدبي بالكابينة بمؤسسة جدران للفنون والتنمية بالإسكندرية، مصر